فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقوله تعالى: {واجعل لي لسانَ صدْقٍ في الآخرين}؛ كل من أخلص وجهه لله، وتخلصت سريرته مما سوى الله، وكان إبراهيميًا حنيفيًا، جعل الله له لسان صدق فيمن يأتي بعده، وحسن الثناء عليه في حياته وبعد مماته، لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا أحب الله عبدًا نادى جبريل: إن الله يُحب فلانًا فَأَحِبَّهُ، فَيُحِبُّهُ جبريل، ثم ينادي جبريل في أهل السموات: إن الله يحب فلانًا فأحِبُّوه، فيحبُّه أهل السماء، ثم يُوضَع له القَبُول في الأرض» أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى: {واغفر لأبي}. إلخ.
قال القشيري: هذا عند العلماء: إنما قاله قبل يأسه من إيمانه، وعن أهل الإشارة: ذكره في وقت غَلَبَةِ البَسْط، وتجاوز ذلك عنه، وليس إجابةُ العبد واجبةً عليه في كل شيء، وأكثر ما فيه: أنه لا يجيبه في ذلك، ثم لهم أسوة في ذكر أمثال هذا الخطاب، وهذا لا يهتدي إليه كلُّ أحدٍ. اهـ.
قال المحشي: وينظر لما قاله العلماء، وبه الفتوى، قوله: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة: 114]، وينظر للسان الإشارة شفاعته له يوم القيامة، وتكلمه فيه بقوله: «وأيُّ خِزْيٍ أعظم من كون أبي في النار» الحديث، وكذا قوله: {وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [إبراهيم: 36]، وجاء ذلك من استغراقه في بحر الرحمة، على سعة العلم، ومثله استغفار نبينا صلى الله عليه وسلم لابن أُبَيّ، وصلاته عليه، وانظر الطيبي في آية: {وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: 7]. اهـ.
وقوله تعالى: {إلا من أتى الله بقلب سليم}، أظهر ما قيل في القلب السليم: أنه السالم من الشكوك والأوهام، والخواطر الردية، ومن الأمراض القلبية، ولا يتحقق له هذا إلا بصحبة شيخ كامل، يُخرجه من الأوصاف البشرية، إلى الأوصاف الروحانية، ويحققه بالحضرة القدسية، وإلا بقي مريضًا، حتى يلقى الله بقلب سقيم. وفي الإحياء: السعادة منوطة بسلامة القلب من عوارض الدنيا، والجودُ بالمال من عوارض الدنيا، فشرط القلب أن يكون سليمًا بينهما، أي: لا يكون ملتفتًا إلى المال، ولا يكون حريصًا على إمساكه ولا حريصًا على إنفاقه؛ فإن الحريصَ على الإنفاق مصروفُ القلب إلى الإنفاق، كما أن الحريص على الإمساك مصروف القلب إلى الإمساك. وكان كمال القلب أن يصفو من الوصفين جميعًا. وقال الداراني: القلب السليم هو الذي ليس فيه غير الله تعالى. اهـ. وقال الجنيد رضي الله عنه: السليم في اللغة: اللديغ، فمعناه: كاللديغ من خوف الله تعالى. اهـ. وبالله التوفيق. اهـ.

.قال عبد الكريم الخطيب:

{فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ}.
العدوّ: يطلق على الواحد والجمع، والضمير في إنهم يعود إلى ما في قوله تعالى: {ما كُنْتُمْ} أي الذي كنتم تعبدون، وهو الأصنام.
فالعدوّ لإبراهيم، هو تلك المعبودات من الأصنام، وعداوة إبراهيم لهذه الأصنام، ليست عداوة ذاتية لهذه المعبودات، من حيث هي نصب قائمة، وإنما لأنها مضلّة لهؤلاء الضّالين، أما هي في ذاتها، فلا تعادى، لأنها لا تعقل، ولم يكن منها فعل تعادى من أجله.
وفي قوله تعالى: {إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ} هو استثناء من العداوة التي أوقعها إبراهيم على ما كانوا يعبدون هم وآباؤهم الأقدمون من معبودات، ولما كان من بين هذه المعبودات التي كان يعبدها القوم في مرحلة من مراحل حياتهم، اللّه سبحانه وتعالى، فقد استثنى إبراهيم هذا المعبود الحقّ، من تلك العداوة التي تقوم بينه وبين معبودات القوم، وفي هذا ما يكشف للقوم على أن من بين ما كانوا يعبدون هم وآباؤهم، معبودا واحدا، هو الذي ينبغى أن يعبد، وهو اللّه ربّ العالمين، وأن ما سواه من معبودات هو باطل وضلال، وهو ما لا يمكن أن تقوم بينه وبين إبراهيم صلة، إلا أن تكون صلة عداوة وقطيعة!.
وفي قول إبراهيم: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي} دون أن يقول: {فإنى عدوّ لهم} حيث جعل العداوة منهم هم إليه، ولم يجعلها منه هو إليهم، كما يقضى بذلك ظاهر الأمر- في هذا إشارة إلى أمور منها:
أولا: أنه لما كان اللّه سبحانه وتعالى في هذه المعبودات التي ذكرها إبراهيم، فقد حسن أن يجعل إبراهيم العداوة صادرة من تلك المعبودات، إلى من تعاديه، لأن المعبود، لا العابد، هو الذي يقام لعداوته، أو رضاه، وزن، ويكون لعداوته أو رضاه أثر، أما العابد، فلا وزن، ولا أثر لعداوته أو رضاه، في من يعبده، هكذا يجب أن يكون الحساب والتقدير.
وثانيا: أنه لما كان الوجه البارز من هذه المعبودات هو هذه الأصنام الصمّاء الخرساء- فقد حسن أيضا ألا يكون من عاقل أن يعاديها، لأنها لم يكن لها أن تفعل شيئا تعادى أو تحبّ من أجله، وأنه إذا كان فيها من يفعل، وهو اللّه سبحانه وتعالى، فإن عداوته لمن يعادى أو رضاه عمن يرضى عنه، هو من أمره وحده، إذ المعتبر هنا، هو عداوته لمن يعادى، أو رضاه عمن يرضى، لا عداوة من يعاديه، ورضا من يرضى عنه!.
ثم إنه بعد أن استصفى إبراهيم من بين تلك المعبودات، المعبود الحقّ، الذي يعبده، والذي ينبغى أن يعبده العابدون، أخذ يعرض صفات هذا المعبود، وما بين يديه من سلطان مطلق، يحكم به في عباده، فقال: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ}.
هذا هو الإله الحق، مالك الملك، ومن بيده النفع والضرّ.
ويلاحظ هنا أن إبراهيم قد ذكر من صفات اللّه- سبحانه- ما يتناسب وربوبية الربّ لعباده، فهو الذي يربّى عباده، ويحوطهم بنعمه وآلائه.
فيهدى الضالّين، ويطعم الجائعين، ويلقى خطايا المخطئين من عباده بالعفو والغفران، يوم الحساب والجزء، ويروى الظّماء، ويشفى المرضى، ويحيى الموتى، وفي هذا ما يكشف للقوم عن نعم اللّه وإحسانه إلى عباده.
وفي هذا ما يغريهم باللّياذ به، واللّجأ إليه، حتى لا يحرموا هذا الخير الكثير الذي في يديه.
وإذ يفتح لإبراهيم هذا الباب الواسع من رحمة اللّه وإحسانه، فإنه يبادر بالدخول إلى هذا الجناب الرحيم، ليأخذ حظّه من الخير الممدود هناك.
فيمدّ يده طالبا الفضل والإحسان، من صاحب الفضل والإحسان.
{رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}.
وأول ما طلبه إبراهيم من عطاء ربّه في هذه الدنيا، هو أن يهب اللّه له حكما أي سلطانا من العلم والحكمة، يمسك به حقائق الأشياء، ويقيمها على ميزانه، وبهذا يكون في المقربين الصالحين من عباد اللّه. ثم كان الطلب الثاني له من ربّه أن يجعل له لسان صدق في الآخرين، أي يبقى له ذكرا طيبا في الحياة من بعده، وذلك لا يكون إلّا لأهل الخير، والصلاح، من الناس.
ففى هذا الذكر الطيب، طريق من طرق الهداية للناس، حيث ينتصب لهم منه المثل الطيب، والقدوة الصالحة، وهذا ما علّم اللّه عباده المتقين أن يسألوه إباه، ويدعوه به، كما يقول سبحانه على لسانهم {وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِمامًا} [74: الفرقان] ثم يجىء الطلب الذي تختم به خاتمة الإنسان في هذه الآية، ويدرك به غاية مسعاه، وهو الفوز برضوان اللّه وجنات النعيم.
{وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ}.. وفي هذا النعيم العظيم، لا ينسى إبراهيم أباه، وما حرم نفسه منه، بضلاله، وشروده عن اللّه، فيسأل ربّه أن يغفر لأبيه، حتى يذوق حلاوة هذا الرضوان: {وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ} ثم عاد إبراهيم إلى نفسه، وقد خاف أن يحرم هذا النعيم الذي هو أحرص ما يكون على أن ينال حظّه منه: {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} أي قلب خالص من الشرك، معافى من الضلال. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77)}.
والفاء في قوله: {فإنهم عدو لي} للتفريع على ما اقتضته جملة: {أفرأيتم ما كنتم تعبدون} من التعجيب من شأن عبادتهم إياها.
ويجوز جعل الرؤية بصرية لها مفعول واحد وجَعْل الاستفهام تقريريًا والكلام مستعمل في التنبيه لشيء يريد المتكلم الحديث عنه ليعيه السامع حق الوعي، أو فاء فصيحة بتقدير: إن رأيتموهم فاعلموا أنهم عدُوّ لي.
وهذا الوجه أظهر.
والاستثناء في قوله: {إلا رب العالمين} منقطع.
و{إلا} بمعنى لكن إذا كان ربّ العالمين غير مشمول لعبادتهم إذ الظاهر أنهم ما كانوا يعترفون بالخالق ولم يكونوا يجعلون آلهتهم شركاء لله كما هو حال مشركي العرب، ألا ترى إلى قوله تعالى: {قال بل فعله كبيرهم هذا} [الأنبياء: 63] فهو الصنم الأعظم عندهم، وإلى قوله: {قال أتحاجّوني في الله وقد هدان} [الأنعام: 80].
ويظهر أن الكلدانيين قوم إبراهيم لم يكونوا يؤمنون بالخالق الذي لا تدركه الأبصار.
وكان أعظم الآلهة عندهم هو كوكبَ الشمس والصنم الذي يمثل الشمس هو بعل، فوظيفة الأصنام عندهم تدبير شئون الناس في حياتهم.
وأما الإيجاد والإعدام فكانوا من الذين يقولون {وما يُهلكنا إلا الدهر} [الجاثية: 24] وأن الإيجاد من أعمال التناسل وهم في غفلة عن سر تكوين تلك النظم الحيوانية وإيداعها فيها.
وقد يكونون معترفين برب عظيم خالق للأكوان وإنما جعلوا الأصنام شركاء له في التصرف في نظام تلك المخلوقات كما كان حال الإشراك في العرب فيكون الاستثناء متصلًا لأنَّ الله من جملة معبودِيهم، أي إلا الرب الذي خلق العوالم.
وتقدم ذكر أصنام قوم إبراهيم في سورة الأنبياء.
وانظر ما يأتي في سورة العنكبوت.
{الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78)}.
الأظهر أن الموصول في موضع نعت ل {ربّ العالمين} [الشعراء: 77] وأنّ {فهو يهدين} عطف على الصلة مفرع عليه لأنه إذا كان هو الخالق فهو الأولى بتدبير مخلوقاته دون أن يتولاّها غيره.
ويجوز أن يكون الموصول مبتدأ مستأنفًا به ويكون {فهو يهدين} خبرًا عن {الذي}.
وزيدت الفاء في الخبر لمشابهة الموصول للشرط.
وعلى الاحتمالين ففي الموصولية إيماء إلى وجه بناء الخبر وهو الاستدراك بالاستثناء الذي في قوله: {إلا رب العالمين} [الشعراء: 77]، أي ذلك هو الذي أُخلصُ له لأنه خلقني كقوله في الآية الأخرى: {إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض} [الأنعام: 79].
وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في قوله: {فهو يهدين} دون أن يقول: فيهدين، لتخصيصه بأنه متولي الهداية دون غيره لأن المقام لإبطال اعتقادهم تصرف أصنامهم بالقصر الإضافي، وهو قصر قلب.
وليس الضمير ضمير فصل لأن ضمير الفصل لا يقع بعد العاطف.
والتعبير بالمضارع في قوله: {يهدين} لأن الهداية متجددة له.
وجعل فعل الهداية مفرّعًا بالفاء على فعل الخلق لأنه معاقب له لأن الهداية بهذا المعنى من مقتضى الخلق لأنها ناشئة عن خلق العقل كما قال تعالى: {الذي أعطى كلَّ شيء خلقه ثم هدى} [طه: 50].
والمراد بالهداية الدلالة على طرق العلم كما في قوله تعالى: {وهديناه النجدين} [البلد: 10] فيكون المعنى: الذي خلقني جسدًا وعقلًا.
ومن الهداية المذكورة دفع وساوس الباطل عن العقل حتى يكون إعمال النظر معصومًا من الخطأ.
والقول في تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في قوله: {والذي هو يطعمني ويسقين}، وقوله: {فهو يشفين} كالقول في سابقهما للرد على زعمهم أن الأصنام تقدر لهم تيسير ما يأكلون وما يشربون وبها برؤهم إذا مرضوا، وليسا بضميري فصل أيضًا.